في نهاية شهر تموز / يوليو 2016، شهدت (صفاقس) انطلاق فعالياتها الاحتفالية كعاصمة الثقافة العربية لهذا العام. نعم، لقد اعتادت (تونس) احتضان الفعاليات العربية والعالمية، لاسيما السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها، ولا زلت أذكر عدداً من المؤتمرات العربية الكبيرة، إلى جانب احتضان مدينة (تونس) احتفالية عاصمة الثقافة العربية في عام 1997، وكذلك (القمة العالمية لمجتمع المعلومات) ـ المرحلة الثانية ـ في عام 2005، والتي شارك فيها ممثلون عن حوالي 170 بلداً بينهم عدد من رؤساء الدول والحكومات، كذلك ممثلون من الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني والقطاع الخاص (نحو 23 ألف مشارك)، حضروا فعاليات القمة الرسمية وتظاهراتها الموازية والمعرض الدولي الذي نظم بهذه المناسبة وتم خلاله عرض آخر الابتكارات في المجال التكنولوجي. ومن المعروف عربياً وعالمياً أن (تونس) تشتهر بتعدد أنواع السياحة لديها كالسياحة الصحراوية، والبحرية، والبيئية والعائلية والتاريخية والدينية والثقافية وغيرها.
لقد وصف أحد الأصدقاء المشاركين في الفعاليات الثقافية التونسية رحلته إلى (تونس) بقوله: شعرت خلال هذه اللقاءات بأرواح خالدة كروح (عقبة بن نافع) مؤسس مدينة (القيروان) التي ظلت أهم مدن إفريقيا والمغرب العربى ردحاً طويلاً من الزمن، و(ابن خلدون)، و(ابن الجزار)، و(ابن شرف)، و(ابن هاني)، و(ابن رشيق)، و(أبي القاسم الشابي) وغيرهم، كثير، وكثير.
تحتضن غابات من أشجار الزيتون مدينة (صفاقس) الممتدة على شاطيء البحر، والتي تتميز بأسوارها التاريخية، وأسواقها الشعبية، وجامعها الكبير الذي شيد في القرن العاشر، وتعد مئذنته من أجمل المآذن التونسية، وكذلك منطقة (القصبة) ومتحفها. إلى جانب هذه المعالم الفريدة نجد الأحياء العمرانية الحديثة، ومطارها الدولي، والعديد من المؤسسات الثقافية والتربوية والعلمية والاجتماعية، الحكومية منها والأهلية، بالإضافة إلى المنشآت الصناعية والتجارية التي تشتهر بها داخل (تونس) وخارجها.
منذ عدة سنوات أعلنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) اختيار (صفاقس) عاصمة الثقافة العربية لعام 2016، فانطلقت المؤسسات التونسية الثقافية في الإعداد لاحتضان هذه المناسبة والبناء على ما حققته من نجاحات، وما واجهته من تحديات خلال احتضان (تونس) العاصمة لهذه المناسبة في عام 1997، خاصة أن (صفاقس) هي مدينة الابتكار والعمل والاستثمار، ومركز متقدم للرواد والمبدعين، في كل صنوف العلم والفن والمعرفة، وهي ذات سجل حافل في رعاية وتنظيم الأنشطة الثّقافيّة كمهرجان (سيدي منصور) السنوي، الذي تجاوز عدد دوراته الخمسين، ومهرجان (صفاقس) الدولي، ومهرجان (المدينة)، و(قرمدة)، بالإضافة إلى الفعاليات الدورية للمعاهد والمؤسسات الثقافية والعلمية والتربوية والاجتماعية.
إن التحدي الأكبر الذي تواجهه (صفاقس) في مهمتها هذه، هو الواقع المؤلم والمحزن للثقافة والمثقفين العرب خلال أزمات وصراعات السنوات الأخيرة، فآثار الانقسام والتشرذم والضياع إلى جانب القمع والفساد بكل أشكاله ودرجاته، وما استشرى من أمراض في نفوس وعقول بعض مثقفينا، ومؤسساتنا بدت واضحةً على المشهد الثقافي العربي، وأدى إلى جراحات وخلافات كبيرة، وهو أمر يضع تحديات كبيرة أمام القائمين على هذه المناسبة وطموح وتطلعات (صفاقس). فهل يفلح أطباء (صفاقس) ـ الذين نشهد لهم جميعاً ـ في تضميد جراحات ثقافتنا العربية وأزماتها، وهل يفلح عطار (صفاقس) في إصلاح ما أفسدته نزاعاتنا وحروبنا؟
رغم إدراك (صفاقس) للواقع العربي المتردي، وتداعياته الكارثية على حاضرنا ومستقبلنا جميعاً، وما أصاب الثقافة والمثقفين، فإنها اختارت التحدي وشرف المحاولة، ورغم كل بواعث اليأس والإحباط والفشل، اختارت (صفاقس) أن تلهمنا وتستنهض ما تبقى فينا، اختارت أن ترفع راية الأمل والإيمان بالثقافة الأصيلة الجامعة والمثقفين الحقيقيين، اختارت السعي إلى تعميق الحوار وتعزيز قيم التسامح والتفاهم والسلام، لقد اختارت المضي قدماً رافعة شعار: (الثقافة توحّدنا وصفاقس تجمعنا).