إعداد الكاتب محمد النابلسي
يواجه الأشخاص من ذوي الإعاقة الذهنية واضطراب طيف التوحد (ASD) تحديات فريدة عند خضوعهم لتحقيقات قانونية، سواء كانوا ضحايا أو شهودًا أو متهمين. فحسب دراسة أعدتها كلية ستانفورد للقانون بعنوان “Interrogated with Intellectual Disabilities: The Risks of False Confession” (Samson & Schatz, 2018)، تمت تبرئة ما لا يقل عن 245 شخصًا من إدانات في قضايا تضمنت اعترافات لم تكن صحيحة. حيث تمثل الاعترافات وسيلة لإغلاق القضايا بطريقة تبدو حاسمة، لكنها تُستخدم بشكل مفرط ضد الفئات الضعيفة، كالأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية.
توضح هذه الدراسة أن هؤلاء الأفراد معرضون بشكل خاص للاعتراف الكاذب خلال التحقيقات الرسمية، كما أن الضمانات القانونية التقليدية لا توفر لهم الحماية الكافية. كما تشير الدراسة إلى أن ما يزيد عن ربع حالات الاعتراف الكاذب المُوثقة تعود لأشخاص تظهر عليهم مؤشرات الإعاقة الذهنية، وهي نسبة تفوق معدل وجود هذه الإعاقة بين عامة السكان.
في العالم العربي، لا يوجد لدينا ما يكفي من توثيق حول الانتهاكات التي تمارس بحق الأشخاص ذوي الإعاقة خلال فترة التحقيقات، وتحقيق العدالة، وإن كانت تتفاوت المسألة بين دولة عربية وأخرى، وحسب الظروف السياسية والاجتماعية التي يمر بها كل بلد، خاصة مع الظروف السياسية والاجتماعية غير المستقرة في عدد كبير من الدول العربية.
ومن الناحية الحقوقية، تنص المادة 12 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، المعتمدة من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006 على “حق الأشخاص ذوي الإعاقة في الاعتراف بهم على قدم المساواة مع الآخرين أمام القانون”، وتشدد على توفير الدعم اللازم لممارسة هذا الحق، بما في ذلك أثناء الإجراءات القانونية. غير أن هذا الدعم نادراً ما يُنفذ فعلياً في التحقيقات الجنائية، إذ تفتقر العديد من الأنظمة إلى بروتوكولات واضحة للتعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة خلال الاستجواب، ومن جهة أخرى تسعى جهات التحقيق إلى الخروج بنتائج تهدف إلى إغلاق القضايا المفتوحة، وتحويلها للجهات القضائية.
وفي ظل هذا الواقع، تصبح الحاجة ماسة إلى تبني استراتيجيات دقيقة تحمي حقوق هؤلاء الأفراد وتمنع الانتهاكات بحقهم خلال التحقيقات الجنائية.
يُعد وجود مختص في التواصل المدعوم أو مترجم مؤهل في اضطرابات اللغة والنطق أو اضطراب طيف التوحد خطوة أساسية لضمان عدالة إجراءات التحقيق مع الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية أو اضطراب طيف التوحد. فكثير من هؤلاء الأفراد يعانون من صعوبات في فهم اللغة المجردة، أو المصطلحات القانونية، أو الأسئلة المركبة، ما قد يؤدي إلى سوء الفهم أو الاستجابة غير الدقيقة.
ولضمان تحقيق عادل وشامل، يُوصى باتباع الاستراتيجيات التالية:
أولاً: وجود المساند أو الاختصاصي القادر على التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية:
وجود شخص مختص يستطيع القيام بدور المساند في شرح المعلومات، ومساعدة الشخص ذي الإعاقة الذهنية أو ذي اضطراب طيف التوحد باتخاذ القرار أو تقديم الإجابة دون التأثير عليه، أو توجيهه لتبني إجابة تصب في صالح طرف ما.
ويعمل هذا المساند على تبسيط لغة الأسئلة وتجزئتها ويكون ذلك تحت إشراف المختص لضمان أن الأسئلة المطروحة تُفهم بشكل دقيق من قبل الشخص المُستجوب، مع التأكد من تجنّب الأسئلة المركبة أو الموحية بالإجابات. وإعادة صياغة الإجابات المشكوك في فهمها، والتحقق مما إذا كانت الإجابة تعكس فعلاً فهم الشخص للسؤال أم أنها جاءت بدافع التوتر أو محاولته إرضاء المحقّق.
ومن الممكن تدريب المحققين على القيام بهذه المهمة وفهم لغة الجسد والسلوكيات النمطية لدى الأشخاص ذوي الإعاقة، وتدريبهم على الاستراتيجيات التبسيطية والتوضيحية، وتعزيز قدراتهم على تمييز علامات القلق، الارتباك، أو التحفيز الزائد التي قد تُفهم خطأً كعلامات كذب أو تهرب.
يتوجب تدريب ضباط الشرطة بشكل إلزامي حول كيفية التعرف على الإعاقات الذهنية واضطراب طيف التوحد، وفهم أنماط السلوك والتواصل المختلفة لديهم. وتشير الدراسات إلى أن سوء تفسير السلوكيات غير النمطية قد يُفهم على أنه تهرب أو كذب (Drizin & Leo, 2005).
ثانياً: تصوير وتوثيق مسار إجراءات التحقيق:
التوثيق وتصوير جلسات تحقيق من الاستراتيجيات الهامة لضمان عدالة سير التحقيقات، كما ينبغي أن تُوثق جميع هذه الإجراءات ضمن محاضر التحقيق، وأن يُسمح بحضور المختص طوال فترة الاستجواب دون استثناء. يعد التوثيق الكامل بالصوت والصورة وسيلة أساسية للرقابة على سير التحقيقات، وضمان أن ما قيل وما تم لم يتعرض للتحريف أو الإخراج من سياقه، كما أنه يوفّر أداة للرجوع إليها من قبل القضاة أو الدفاع في حال وجود ادعاءات بانتهاكات أو ضغوط.
وهو ما أكده تقرير Wyatt Kozinski (2018) بعنوان “The Reid Interrogation Technique and False Confessions: A Critical Analysis”، الذي استعرض فيه عددًا من حالات الاعترافات الكاذبة وقدم توصيات بتوثيق جميع جلسات التحقيق بالصوت والصورة، والذي قدم مراجعة نقدية شاملة لأساليب التحقيق المتبعة في الولايات المتحدة، وعلى رأسها أسلوب ريد (Reid Technique). تناول التقرير بعمق حالات اعتراف كاذب مسجلة بالفيديو، ومن أبرزها قضية المراهق بريندن داسي (Brendan Dassey)، من الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية، وقد ظهر في تسجيلات التحقيق وهو يُستدرج تدريجيًا للاعتراف بجريمة لم يرتكبها. أظهرت تلك التسجيلات كيف أن المحققين استخدموا أساليب الإيحاء والتكرار والخداع دون أن يفهم هذا المراهق عواقب أقواله، بل كان يعتقد أنه سينال الحرية إذا وافقهم على أقوالهم.
يشير كوزينسكي إلى أن توثيق التحقيقات بالصوت والصورة لا يكشف فقط عن وقوع الإكراه، بل يُظهر كذلك عجز بعض المستجوَبين عن مقاومة الضغط النفسي أو التعبير عن عدم فهمهم للأسئلة. كما أوصى التقرير بضرورة اعتماد هذا التوثيق كأداة معيارية في جميع التحقيقات، خاصة مع الفئات الهشة مثل القُصَّر والأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية.
إذًا، فإن التسجيل الكامل لا يحمي فقط المُستجوب، بل يحمي النظام القضائي من الوقوع في أخطاء جسيمة تهدد مصداقيته، ويساهم في الحد من ظاهرة الاعترافات الكاذبة التي كثيراً ما تقع في غياب الرقابة.
ثالثاً: تدريب عناصر الشرطة على استراتيجيات التحقيق:
تُعد استراتيجية ريد (Reid Technique) من أكثر أساليب التحقيق انتشاراً في العالم، وتعتمد على الإيحاء، تقديم أدلة زائفة أحيانًا، ودفع المشتبه به نحو الاعتراف عبر الضغط النفسي. ورغم استخدامها الواسع، فإن العديد من الدراسات، مثل تقرير Kozinski (2018)، ربطتها بارتفاع حالات الاعتراف الكاذب، خاصة بين الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية أو اضطراب طيف التوحد، ممن لا يملكون القدرة الكاملة على فهم الموقف أو مقاومة الضغط.
في المقابل، تقدم استراتيجيات بديلة مثل نموذج PEACE (تخطيط، تفاعل، سرد، إغلاق، تقييم) نهجاً غير اتهامي يركّز على جمع المعلومات لا انتزاع الاعتراف. كما تعتمد نماذج التواصل المدعوم على تكييف اللغة والأسئلة لتتناسب مع قدرات الشخص، باستخدام أدوات بصرية أو مترجمين مختصين. هذه الاستراتيجيات تُعد أكثر أماناً، وتركّز على الفهم المتبادل بدلاً من الضغط، ما يقلل من احتمالية الانتهاك والاعترافات الخاطئة، ويعزز العدالة الإجرائية.
تشير بيانات Innocence Project إلى أن أكثر من 80% من حالات الاعتراف الكاذب حصلت في قضايا قتل، غالباً بعد تحقيقات دامت لأكثر من 12 ساعة (Drizin & Leo, 2005). يجب حظر أي تقنية تتضمن التهديد، الخداع، أو الإيحاء بنتائج مخففة.
رابعاً: استراتيجية الحوكمة التشاركية والرقابة المستقلة على التحقيقات
تعزيز العدالة في الإجراءات الجنائية، خاصة فيما يتعلق بالأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية واضطراب طيف التوحد، يتطلب تبني نهج شامل يجمع بين التعديل القانوني، الرقابة القضائية الفاعلة، والتعاون المؤسسي مع منظمات المجتمع المدني. بداية، لا بد من إدخال تعديلات صريحة على قوانين الإجراءات الجزائية، تنص على ضرورة وجود مختصين مؤهلين – سواء في الجوانب القانونية أو النفسية أو التواصلية – أثناء التحقيق مع أي شخص لديه تقرير إعاقة رسمي، أو تظهر عليه مؤشرات توحي بوجود إعاقة ذهنية أو نمائية.
إلى جانب ذلك، ينبغي تفعيل الشراكات مع الجمعيات والمنظمات المتخصصة في شؤون الإعاقة، من أجل تطوير بروتوكولات تحقيق ملائمة، وتوفير الدعم المناسب أثناء التحقيق، والمساهمة في تدريب الكوادر الأمنية والقضائية. هذه الشراكة لا توفر فقط حماية مباشرة للأفراد، بل تسهم أيضاً في بناء ثقافة مؤسساتية أكثر وعياً واحترافاً.
ومن جهة الرقابة، فإن دور المحكمة يجب ألا يُختزل في النظر بنتيجة التحقيق فقط، بل يجب أن تُمنح صلاحية مراجعة مجريات التحقيق كاملة، خاصة عندما تتوافر دلائل على وجود إعاقة قد تكون أثرت على فهم المتهم لسير الإجراءات أو على قدرته في الدفاع عن نفسه. إن تفعيل هذا الدور الرقابي، ضمن منظومة قانونية داعمة وتعاون مجتمعي فاعل، يشكل حجر أساس في حماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتحقيق مبدأ المساواة أمام القانون بصورة واقعية وعملية.
خامساً: إجراء تقييم نفسي ولغوي أولي قبل الشروع في التحقيق
وحتى لا تكون المسألة عشوائية وغير منظمة، وقد يساء استغلالها، يشكل التقييم النفسي واللغوي المبدئي خطوة أساسية لضمان نزاهة التحقيقات مع الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية أو اضطراب طيف التوحد. إذ يجب، قبل البدء بأي استجواب رسمي مع أشخاص يُشتبه بأنهم من ذوي الإعاقة الذهنية أو اضطراب طيف التوحد، أو يحملون وثائق رسمية تشير إلى وجود الإعاقة، لا بد من إجراء تقييم متخصص يهدف إلى فهم قدرات المُستجوَب العقلية، ومستوى إدراكه للمفاهيم القانونية، ومدى قدرته على التواصل اللفظي أو غير اللفظي. يساعد هذا التقييم في تحديد مدى أهليته للمساءلة القانونية، ومدى حاجته إلى تكييفات أو دعم أثناء التحقيق.
ينبغي أن يُجرى هذا التقييم من قبل مختصين في الطب النفسي أو علم النفس الإكلينيكي بالتعاون مع خبراء النطق واللغة أو مختصين باضطراب طيف التوحد، بحسب الحالة. ويجب أن يُوثق هذا التقييم ضمن ملف التحقيق بشكل رسمي، ويُؤخذ بعين الاعتبار في تحديد الإجراءات الملائمة ودرجة الاعتماد على أقوال الشخص المعني. كما ينبغي أن يُحدث هذا التقييم قبل كل جلسة تحقيق إذا استمرت الجلسات لأيام أو ظهرت مؤشرات تغير في الحالة النفسية.
إن تجاهل هذا الإجراء يعرض العدالة للخطر، وقد يؤدي إلى مساءلة أفراد غير مدركين تماماً لحقوقهم أو لطبيعة الأسئلة الموجهة إليهم، مما يفتح الباب واسعاً أمام الاعترافات القسرية أو غير الواعية.
سادساً: التهيئة النفسية المسبقة للأشخاص ذوي الإعاقة قبل خضوعهم لإجراءات التحقيق
تُعد التهيئة النفسية عنصراً بالغ الأهمية في ضمان حماية الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية أو اضطراب طيف التوحد، خصوصاً عندما يكونون في موقع الضحية. فهذه الفئة قد تعاني من صعوبة في فهم السياق الإجرائي للتحقيق، أو تفسير النوايا، أو التفريق بين السلطة القانونية والتهديد، مما يزيد من مستويات القلق والانغلاق أو الاستجابة غير الدقيقة للأسئلة. ولهذا، ينبغي أن يُخصص وقت كافٍ قبل التحقيق لتهيئة الشخص نفسياً وتوضيح ما سيجري بلغة مبسطة ومدعومة بالصور أو النماذج، مع توضيح حقوقه وطمأنته بشأن الدعم المتوفر.
تشير الأدبيات العلمية إلى أن التهيئة النفسية تساهم في خفض مستويات التوتر وتحسّن قدرة الأفراد ذوي الإعاقة على الإدلاء بمعلومات دقيقة دون خوف أو تشويش (Gudjonsson, 2003؛ Peled et al., 2004). كما أن الأطفال أو البالغين الذين تعرضوا لاعتداءات، وتلقوا دعماً نفسياً قبل الإدلاء بشهاداتهم، أظهروا قدرة أعلى على السرد المنظم للمعلومات، واستقراراً عاطفياً خلال المقابلات، مقارنةً بمن خضعوا للتحقيق مباشرة دون تحضير (Pipe et al., 2007).
من هنا، يصبح من الضروري دمج جلسات تهيئة مع مختص نفسي قبل أي تحقيق مع شخص ذي إعاقة، وخاصة إذا كان ضحية. ويجب أن تشمل هذه الجلسات محاكاة للإجراءات بلغة مبسطة، واستخدام أدوات داعمة، وضمان وجود شخص مألوف أو داعم أثناء الاستجواب متى أمكن، مع الحرص على بيئة هادئة غير مهددة. فكلما زاد الشعور بالأمان النفسي، زادت فرصة تحقيق العدالة دون المساس بكرامة الشخص أو إرغامه على أقوال غير دقيقة.
إن إنشاء بيئة تحقيق آمنة وعادلة للأشخاص ذوي الإعاقة ليس مجرد إجراء احترازي، بل هو التزام قانوني وأخلاقي. تتطلب العدالة أن يُعامل كل إنسان بما يناسب قدراته وإدراكه، لا أن يُقاس الجميع بنفس المعايير، لا سيما في لحظات الضغط القصوى مثل التحقيق الجنائي. وما لم تتخذ الحكومات العربية خطوات جادة وموثقة في هذا الاتجاه، ستبقى الاعترافات الكاذبة شبحاً يهدد أضعف فئات المجتمع، ويقوض الثقة في أنظمة العدالة نفسها.
المراجع والمصادر:
- College of Policing. (2014). PEACE investigative interviewing. Retrieved from https://www.college.police.uk/article/peace-model-interviewing
- Drizin, S. A., & Leo, R. A. (2005). The problem of false confessions in the post-DNA world. North Carolina Law Review, 82(3), 891–1007. Retrieved from https://scholarship.law.unc.edu/nclr/vol82/iss3/3/
- Gudjonsson, G. H. (2003). The Psychology of Interrogations and Confessions: A Handbook. Wiley.
- Human Rights Watch. (2020). “No One Cared He Was Alive”: Unlawful Detention and Torture of Children in Egypt’s Scorpion Prison. Retrieved from https://www.hrw.org/report/2020/03/23/no-one-cared-he-was-alive/unlawful-detention-and-torture-children-egypts-scorpion
- Innocence Project. (n.d.). False Confessions or Admissions. Retrieved from https://innocenceproject.org/false-confessions-or-admissions/
- Kozinski, A. W. (2018). Criminal Law 2.0: How Our System Breeds False Convictions. Georgetown Law Journal Annual Review of Criminal Procedure, 44, 1–26. Retrieved from https://www.law.georgetown.edu/academics/law-journals/georgetown-law-journal/
- Pipe, M. E., Lamb, M. E., Orbach, Y., & Esplin, P. W. (2007). Recent research on children’s testimony: Implications for forensic interviews. Current Directions in Psychological Science, 16(4), 229–232. https://doi.org/10.1111/j.1467-8721.2007.00504.x
- United Nations. (2006). Convention on the Rights of Persons with Disabilities (CRPD). Retrieved from https://www.un.org/development/desa/disabilities/convention-on-the-rights-of-persons-with-disabilities.html
























