اضطراب ثنائي القطب بتشكيله السينمائي
بقلم محمد زكريا النابلسي
تناولت الأعمال السينمائية في هوليوود موضوع اضطراب ثنائي القطب بأشكال مختلفة، ولم يكن من السهل التعرض إليه بشكل منطقي وفاعل، نظراً لطبيعة الاضطراب غير المتوقعة، فهذا الاضطراب الذي يُعرِّفه مركز مايو كلينك على موقعه الرسمي بأنه كان يُعرف في السابق باسم الاكتئاب الهوسي، وهو عبارة عن حالة صحية عقلية تتسبب في تقلبات مزاجية مفرطة تتضمن الارتفاعات (الهوس أو الهوس الخفيف) والانخفاضات العاطفية (الاكتئاب).
ويأتي فيلم “Infinitely Polar Bear” ليأخذ مكانه على قائمة كلاسيكيات السينما النفسية، التي تجمع بين العمق الإنساني والطرح الواقعي لقضايا الصحة النفسية، حيث يروي قصة مؤثرة ومؤلمة في آنٍ واحد عن التعايش مع اضطراب ثنائي القطب وتأثيره على الحياة الأسرية. الفيلم يفتح نافذة على تحديات الاضطرابات النفسية وكيفية تعامل الأفراد والعائلات معها.
صدر الفيلم في عام 2014 من كتابة وإخراج مايا فوربس، والمعروفة بكتابة أفلام ذات طابع رقيق وهادئ وعائلي مثل فيلم A Dog’s Journey والذي تم إنتاجه في العام 2019، وتدور أحداث الفيلم حول “كاميرون ستيوارت” (الذي يلعب دوره مارك روفالو)، وهو أب يعاني من اضطراب ثنائي القطب ويحاول استعادة عائلته بعد انهيار زواجه من “ماجي” (تلعب دورها زوي سالدانا).
تقرر ماجي متابعة تعليمها في مدينة أخرى لتحسين حياتهم المادية والمهنية، مما يضطرها للابتعاد بعض الوقت لإتمام دراستها الجامعية، وهو ما يضع على عاتق الزوج والأب كاميرون مسؤولية رعاية ابنتيهما، الأمر الذي يبرز العديد من التحديات العاطفية والعملية، وتعامل طفلتيه معه رغم الحب والعلاقة الجميلة التي تربطه بهما.
تعامل الفيلم مع حكاية فيها مزيج من الكوميديا والدراما، حيث يعرض الفيلم اللحظات المليئة بالدفء والضحك بجانب الأوقات المؤلمة والصعبة التي يمر بها كاميرون وابنتاه أثناء محاولتهم التكيف مع حالته النفسية.
البساطة في السرد وقوة الأداء
يعتمد الفيلم على أسلوب سردي بصري بسيط، ولكنه عميق في إنسانيته ومواقفه المكتوبة بشكل يتسم بالجودة، مما يخلق تجربة إنسانية صادقة. أداء مارك روفالو كان محوريًا، وهو الأداء الذي تم ترشيحه بسببه لجائزة جودلن غلوب في دورتها الخامسة والسبعين، حيث أبدع في تقديم شخصية معقدة مليئة بالتناقضات: أب محب، ولكنه غير مستقر، مرح ولكنه يعاني من نوبات الاكتئاب والهوس، استطاع تقديم تجسيد حقيقي لاضطراب ثنائي القطب بكل تفاصيله. كذلك، أضافت زوي سالدانا بعدًا إنسانيًا لشخصية الزوجة التي تكافح لتحقيق التوازن بين مسؤولياتها وطموحها.
وعمل التصوير السينمائي بألوانه الدافئة على عكس الحميمية داخل الأسرة، والعلاقة المترابطة بين أفرادها، رغم ضعف بعض الشخصيات ويأسها من الوضع القائم في بعض الأحيان، والموسيقى التصويرية الهادئة جاءت منسجمة دون أن تكون طاغية على مشاعر المشاهد السينمائية.
صورة حقيقية عن اضطراب ثنائي القطب
عكس الفيلم صورة دقيقة إلى حد كبير عن اضطراب ثنائي القطب والمعاناة التي يواجهها المصابون بهذا الاضطراب، حيث يظهر تقلبات المزاج بين الهوس والاكتئاب، وتأثير ذلك على العلاقات العائلية والاجتماعية، نتيجة تطرف تصرفات الأفراد المصابين بالاضطراب. كاميرون، كشخصية رئيسية، استطاع أن يترجم معاناة الأفراد المصابين بهذا الاضطراب، وصعوبة الالتزام بالمسؤوليات اليومية وصراعه مع ذاته ورغبته العميقة في أن يكون أباً جيدًا.
ومن أهم ما استعرض له الفيلم شبكة الدعم الاجتماعي للمريض، وتأثير الدعم العائلي ودور التفاهم والقبول في تحسين حياة المصابين. كما يُظهر أيضاً أهمية العلاج النفسي والدوائي في التعامل مع الحالات النفسية، دون أن يهمش الدور الكبير الذي يلعبه المجتمع في احتواء هؤلاء الأفراد، على الرغم من صعوبة الإجراءات الدوائية والعلاجية أحياناً،ـ فالصورة التي تم عكسها هي صورة لحالة متدهورة فعلياً .
كما يُبرز “Infinitely Polar Bear” فكرة أن الاضطرابات النفسية ليست نهاية الطريق، بل هي جزء من رحلة إنسانية مليئة بالتحديات. يطرح الفيلم تساؤلات حول كيفية رؤية المجتمع للمصابين بالاضطرابات النفسية، وأهمية توفير بيئة داعمة لهم بدلاً من الوصم أو التجاهل.
فيلم “Infinitely Polar Bear” نستطيع اعتباره عملاً فنياً وإنسانياً يستحق المشاهدة والتأمل، حيث يقدم درساً عميقاً في قبول الآخر وفهم تحديات الصحة النفسية. بفضل مزجه بين الأداء القوي، السرد الواقعي، والتحليل النفسي الدقيق، يظل هذا الفيلم واحدًا من الأعمال السينمائية التي تفتح حواراً ضرورياً حول الصحة النفسية وأهميتها في حياتنا اليومية.

• كاتب أردني مقيم في الشارقة
• مسؤول العمليات الفنية في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
• يعمل في مجال الإعاقة والمؤسسات غير الربحية منذ أكثر من عشرين عاماً، شغوف بتعزيز حق القراءة للأشخاص من ذوي الإعاقة، وترسيخ الصورة الحقوقية عنهم في كتب الأطفال واليافعين.
• لديه العديد من المفالات منشورة في عدد من الدوريات العربية الالكترونية والورقية تحمل مراجعات نقدية للكتب، والسينما والحقوق الثقافية لللأشخاص ذوي الإعاقة.
• لديه خبرة في المسرح مع الأطفال والأشخاص من ذوي الإعاقة لديه مشاركات عديدة في مؤتمرات ثقافية ومتخصصة في مجال الكتب والمسرح.
صدر له:
• عن رواية تمر ومسالا – لليافعين عام – 2019 – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• قصة خياط الطوارئ – للأطفال عام 2020 ( تحت الطبع) – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• حاصل على المركز الأول في جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال سنة 2020 عن قصته “غول المكتبة”