(إذا حدّث الأصمّ بشيء فاشدد يديك) الأصمعي
ما برحت ساحات العلم والحلم، وباحات الأدب والمعرفة حافلة بسير تنضح بالسداد والحكمة، وتفوح عطوراً بقصص من أكرمهم الله تعالى لأن يكونوا منارات تضيء لنا الطريق، وإن كانوا مصابين في أحد حواسهم، ومنهم إمام المعبّرين، وأحد سادات التابعين، الفقيه الثقة المأمون العالي الرفيع كثير العلم المقدم في الزهد والورع وبر الوالدين، المولود في السنة الثالثة والثلاثين من الهجرة.. أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري البصري، مولى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أُسر والده سيرين، وكان من سبي معركة (عين التمر) وسيق إلى المدينة المنورة، متملكاً إياه أنس بن مالك رضي الله عنه، الذي كاتبه سعياً إلى إعتاق نفسه، حتّى تزوج من صفيّة مولاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنجب منها ولده محمد بن سيرين.
ولما صار محمد بن سيرين غلاماً، أقبل على علوم عصره ينهل منها وخاصة كتاب الله تعالى وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حظي برؤية ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انتقل مع أسرته إلى البصرة، وبرغم ما عاناه من الصمم، إلا أنه كان اجتماعياً بطبعه، وسيرته مليئة بالأحداث والشخوص والمواقف والأمكنة، فكان قد أعطى كل ذي حق حقه، منظماً وقته بين طلب العلم ونشره، حريصاً على الحلال في تجارته، عاملاً كادحاً أبياً صادقاً.
وصفوه رحمه الله فقالوا: كان قصيراَ، عظيم البطن، به صمم، كثير الضحك والمزاح، عالماً بالحساب، والفرائض، والقضاء، ذا وفرة، يفرق شعره ويخضب بالحناء.
فيما قال فيه العلماء قولاً كثيراً بما يؤيّد سداد رأيه وسعة علمه، وعلو شأنه، ومنهم الإمام الذهبي رحمه الله، حيث قال: قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب يطول ذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي.
أما الشعبي فقد كان يشير له صدقاً وحكمة ورأياً وعلماً في مضمون قوله: (عليكم بذاك الأصم). كما كان يشار له بأوفر علماء عصره ورعاً وعلماً بالفقه والقضاء.
ولشدة ما كان عليه من اهتمام بالأمور كبيرها وصغيرها، كان يقول: نفسي تكلّفني أشياء وددت أنها لا تكلّفني.
ولأمانة كان يكتنزها نورد ما حدث له وحبس لأجله، وامتنع عن الخروج في الظلماء لأجله… وفي ذلك أن ابن سيرين حُبس في دين لزمه، وسببه أنه كان تاجراً فأخذ زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في أحد الأوعية فأرة فظن أنها وقعت في المعصرة وصب الزيت كله وكان يقول: ابتليت بذنب أذنبته منذ ثلاثين سنة، وكان يعتقد أن ذنبه أنه عير رجلاً بفقره وقال له: يا مفلس.
وفي أثناء حبسه قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، فإذا أصبحت فتعال، فقال: لا والله لا أكون لك عوناً على خيانة السلطان.
ولأنه كان يخشى أن يقع في الغيبة، فكان كثير الاستغفار، إذ دخل عليه رجل يشتكي آخر، فقال ابن سيرين: ائت فلاناً فاستوصفه، فإنّه أعلم منه، ثم قال: استغفر الله ما أراني إلا قد اغتبته. وقد عرف عنه شدة وقاره لأمه وبرّه بها، فلم يكن يرفع صوته عليها قطّ، فإذا كلّمها، كلّمها كالمصغي إليها بالشيء، حتى ظن بعضهم أن به مرضاً من خفض كلامه لها.
وبعد أن قضى ابن سيرين دهره صائماً، يصوم يوماً ويفطر يوماً، توفي يوم الجمعة، التاسع من شوال سنة 110 هـ، وقد بلغ نيفاً وثمانين سنة، بعد الحسن البصريّ بمائة يوم، فرحمة من الله واسعة ومغفرة.