معالجة مبتكرة لقضايا متلازمة داون في السينما
بقلم محمد زكريا النابلسي
عند مشاهدة فيلم “The Peanut Butter Falcon”، الذي صدر في عام 2019، ستجد نفسك أمام تحفة سينمائية تعبر عن الإنسانية بأرق صورها، وباعتباره أحد أبرز الأعمال السينمائية التي تناولت موضوع الإعاقة من زاوية مختلفة ونوعية، تسلط الضوء على شكل التمكين المقدم للأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية تحديداً، من خلال قصة الفيلم الذي أخرجه الثنائي تايلر نيلسون ومايكل شوارتز، عن شاب ذي متلازمة داون يسعى لتحقيق حلمه بأن يصبح مصارعاً محترفاً، مما يجعله مثالاً نادراً في السينما العالمية لتمثيل الأشخاص ذوي الإعاقة بصورة حقيقية ومُلهمة، وتقع المفارقة حين تعجز المؤسسات الرسمية عن تقديم التمكين الملائم، يأتي صديقه (تايلر) ليقدم تمكيناً إنسانياً صرفاً دون أحكام وقائماً على الاهتمام المتبادل.
تبدأ أحداث الفيلم بشخصية زاك (أدى الدور الممثل زاك جوتساجن)، وهو شاب في العشرينيات من عمره يعيش في دار رعاية للمسنين بعد أن تُرك دون عائلة تهتم به، ولعدم وجود مؤسسات مؤهلة لحالات الأشخاص ذوي الإعاقة، يكون الخيار الوحيد للحكومة المحلية إيداعه في دار مسنين. يحلم زاك بالهروب من واقعه لتحقيق طموحه في أن يصبح مصارعاً محترفاً مثل بطل طفولته “The Salt Water Redneck”. يُقرر الهروب من دار الرعاية، ليجد نفسه في مغامرة غير متوقعة عندما يلتقي بـ تايلر (شيا لابوف)، رجل يعيش على هامش المجتمع ويحاول الهروب من ماضيه المُظلم.
تُشكل العلاقة بين زاك وتايلر محور القصة، حيث تتحول من شراكة جاءت بمحض الصدفة إلى صداقة عميقة تقوم على الثقة والدعم المتبادل. في موازاة ذلك، تحاول العاملة الاجتماعية إليانور (داكوتا جونسون) العثور على زاك وإعادته إلى دار الرعاية، لكنها تجد نفسها متورطة في هذه الرحلة غير التقليدية.
الفيلم لا يقتصر فقط على السرد السينمائي التقليدي، بل يعكس مجموعة من الرسائل الإنسانية العميقة حول الاحتواء، وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة، وقدرتهم على تحقيق الأحلام من خلال الدعم والقبول، من ضمن تلك المشاهد حوار بين الصديق تايلور والعاملة الاجتماعية إليانور حين طالبها بوقف التعامل معه كشخص (معاق) حسب الصفة التي استخدمت في الحوار، بحيث كانت اليانور تقدم له رعاية تقترب من الحماية الزائدة، والتي كانت تعيقه عملياً عن اكتشاف العالم من حوله، وخوض تجاربه بنفسه.
يتميز الفيلم بأنه قدّم زاك جوتساجن، وهو ممثل من ذوي متلازمة داون بالفعل، في دور البطولة. هذا الاختيار لم يكن مجرد قرار تمثيلي، بل كان خطوة استثنائية في تحول نظرة صناعة السينما إلى الأشخاص ذوي الإعاقة. زاك جوتساجن، الذي كان شغوفاً بالتمثيل منذ صغره، ألهم صناع الفيلم بفكرته، حيث بُني السيناريو بالكامل حول شخصيته.، قدم زاك أداءً رائعاً وصادقاً واستثنائياً لما احتواه من قدرة على التعبير عن مشاعره بصدق وسلاسة، مما أضاف بُعداً حقيقياً للقصة. كما أصبح زاك أول ممثل من ذوي متلازمة داون يُقدم جائزة في حفل الأوسكار، عندما شارك في تقديم إحدى الجوائز عام 2020، كما حصل على جائزة من مهرجان بالم سبرينغز الدولي.
لم يكن زاك فقط هو الوحيد في فريق التمثيل، جاء دور الممثل شيا لابوف، المعروف بأدواره في سلسلة “Transformers”، إذ قدّم دوراً عاطفياً ومعقداً لشخصية تايلور. أما داكوتا جونسون، الشهيرة بدورها في سلسلة “Fifty Shades of Grey لعبت دور العاملة الاجتماعية المتعاطفة، وقد جاء أداؤها للشخصية باهتاً، وبل ويعبر بشكل أساسي عن ضعف دور المؤسسات الاجتماعية الرسمية.
أما الإخراج فكان بقيادة الثنائي تايلر نيلسون ومايكل شوارتز، في أول عمل روائي طويل لهما. استوحى المخرجان القصة من لقائهما مع زاك جوتساجن في إحدى ورش التمثيل، حيث لاحظا حبه للتمثيل وطموحه الكبير، مما دفعهما إلى بناء القصة حوله.
وعلى الرغم من المغامرة التي خاضها المخرجان بكتابة وإخراج هذا الفيلم، فقد حقق فيلم “The Peanut Butter Falcon” نجاحًا كبيرًا وغير متوقع على الصعيدين النقدي والتجاري، وحصد عدداً من الجوائز مثل جائزة اختيار الجمهور في مهرجان SXSW السينمائي، وجائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان نانتوكيت السينمائي.
كما تم ترشيحه لعدة جوائز في مهرجانات سينمائية أخرى، مثل مهرجان ميونيخ السينمائي.
ومن ناحية حقوقية فقد قدم الفيلم تمثيلاً حقيقياً للأشخاص ذوي الإعاقة، دون تجميل أو تعاطف زائد، كما أن اختيار ممثل من متلازمة داون مثل زاك جوتساجن أعطى الفيلم طابعاً واقعياً وألهم الكثيرين، فالفيلم يعكس من خلال قصته الملهمة روح التحدي والإصرار على تحقيق الأحلام، بغض النظر عن الظروف.
وعلى الرغم من التركيز على القصة الفردية لزاك، إلا أن الفيلم لم يتناول بشكل كافٍ التحديات الاجتماعية والمؤسسية التي تواجه الأشخاص ذوي الإعاقة، وإن كان غياب الدور الفاعل لتلك المؤسسات والمجتمع المحلي، هو ما قاد زاك لخوض مغامرته لمقابلة مصارعه المفضل، وخوض تجربة أن يكون مصارعاً.
تناول الفيلم متلازمة داون بطريقة واقعية وبعيدة عن التحيز أو الشفقة. ركز على الإمكانيات والقدرات الفريدة التي يمتلكها زاك، دون التقليل من التحديات التي يواجهها. كما سلط الضوء على أهمية شبكة الدعم المجتمعي من الأصدقاء والعائلة لتحقيق الأهداف التي يسعى إليها، وهو أمر يُعتبر من الرسائل الرئيسية للفيلم.
والعلاقة الديناميكية بين تايلور وزاك أضفت صدقاً ودفئاً على الفيلم من خلال أداء الممثلين، والدور المكتوب لهما بعناية.
ومن ناحية فنية فقد تميز الفيلم بالأجواء الموسيقية الساحرة التي رافقت الفيلم، والصورة المشهدية ومواقع التصوير الخلابة التي عززت من روح المغامرة التي خاضها أبطال الفيلم، وإن كان الفيلم قد عانى أحياناً من إيقاع بطيء بعض الشيء.
“The Peanut Butter Falcon” لولا بعض الكلمات البذيئة التي جاءت من واقع أبطال وقصة الفيلم، وبعض المشاهد العنيفة والعاطفية، فإن الفيلم مؤهل للغاية بأن يكون فيلماً عائلياً بإنسانيته العميقة. الفيلم دعوة مفتوحة للتأمل في قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة وكيف يمكنهم تجاوز التوقعات المجتمعية. كما يظهر أهمية التمكين وتجاوز التصرفات التي تتسم بحماية زائدة، وأشكال الوصاية التي فرضها المجتمع على الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تعيقهم عن القيام بدورهم الحقيقي في مجتمعاتهم.

• كاتب أردني مقيم في الشارقة
• مسؤول العمليات الفنية في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
• يعمل في مجال الإعاقة والمؤسسات غير الربحية منذ أكثر من عشرين عاماً، شغوف بتعزيز حق القراءة للأشخاص من ذوي الإعاقة، وترسيخ الصورة الحقوقية عنهم في كتب الأطفال واليافعين.
• لديه العديد من المفالات منشورة في عدد من الدوريات العربية الالكترونية والورقية تحمل مراجعات نقدية للكتب، والسينما والحقوق الثقافية لللأشخاص ذوي الإعاقة.
• لديه خبرة في المسرح مع الأطفال والأشخاص من ذوي الإعاقة لديه مشاركات عديدة في مؤتمرات ثقافية ومتخصصة في مجال الكتب والمسرح.
صدر له:
• عن رواية تمر ومسالا – لليافعين عام – 2019 – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• قصة خياط الطوارئ – للأطفال عام 2020 ( تحت الطبع) – دار (و) للنشر والوسائل التعليمية – دولة الإمارات العربية المتحدة. –
• حاصل على المركز الأول في جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال سنة 2020 عن قصته “غول المكتبة”